فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن الفراء أن جواب: {لَوْ} مقدم وهو قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] وما بينهما اعتراض وهو مبني كما قيل على جواز تقديم جواب الشرط عليه، ومن النحويين من يراه، ولا يخفى أن في اللفظ نبوة عن ذلك لكون تلك الجملة اسمية مقترنة بالواو، ولذا أشار السمين إلى أن مراده أن تلك الجملة دليل الجواب والتقدير ولو أن قرآنًا فعل به كذا وكذا لكفروا بالحرمن، وأنت تعلم أنه لا فرق بين هذا وتقدير لما آمنوا في المعنى، وجوز جعل: {لَوْ} وصلية ولا جواب لها والجملة حالية أو معطوفة على مقدر.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} من أهل مكة على ما روى عن مقاتل: {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وإبهامه إما لقصد تهويله أو استهجانه، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له مع ما في صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم في ذلك: {قَارِعَةٌ} من القرع وأصله ضرب شيء بشيء بقوة، ومنه قوله:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

والمراد بها الرزية التي تقرع قلب صاحبها، وهي هنا ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب، وتقديم المجرور على الفاعل لما مر غير مرة من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والأحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم أثر ذي أثير: {أَوْ تَحُلُّ} تلك القارعة: {قَرِيبًا} مكانًا قريبًا: {مّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها، شبه القارعة بالعدو المتوجه إليهم فأسند إليها الإصابة تارة والحلو أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيح: {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} أي موتهم أو القيامة فإن كلًا منهما وعد محتوم لا مرد له، وفيه دلالة على أن ما يصيبهم حينئذ من العذاب أشد، ثم حقق ذلك بقوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة، ولعل المراد به ما يندرج تحته الوعد الذي نسب إليه الإتيان لا هو فقط، قال القاضي: وهذه الآية تدل على بطلان من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهي وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق، وأجاب الإمام بأن الخلف غير وتخصيص العمول غير، ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو، وأنت تعلم أن المشهور في الجواب أن آيات الوعد مطلقة وآيات الوعيد وإن وردت مطلقة لكنها مقيدة حذف قيدها لمزيد التخويف ومنشأ الأمرين عظم الرحمة وغاية الكرم، والفرق بين الوعد والوعيد أظهر من أن يذكر.
نعم قد يطلق الوعد على ما هو وعيد في نفس الأمر لنكتة وليتأمل فيما هنا على الوجه الذي تقرر.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها كانوا بين غارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في دارهم.
فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم، وجوز على هذا أن يكون قوله تعالى: {أَوْ تَحُلُّ} خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرادًا به حلول الحديبية، والمراد بوعد الله تعالى ما وعد به من فتح مكة.
وعزا ذلك الطبري إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وروي عن مقاتل وعكرمة.
وذهب ابن عطية إلى أن المراد بالذين كفروا كفار قريش والعرب، وفسر القارعة بما ينزل بهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن وابن السائب أن المراد بهم الكفار مطلقًا قالا: وذلك الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة، ولا يتأتى على هذا أن يراد بالقارعة سرايا رسول الله عليه الصلاة والسلام فيراد بها حينئذ ما ذكر أولًا، وأنت تعلم أنه إذا أريد جنس الكفرة لا يلزم منه حلول ما تقدم بجميعهم.
وقرأ مجاهد وابن جبير: {أَوْ يَحِلَّ} بالياء على الغيبة، وخرج ذلك على أن يكون الضمير عائدًا على القارعة باعتبارهم أنها بمعنى البلاء أو يجعل هائها للمبالغة أو على أن يكون عائدًا على الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقرءا أيضًا: {مِن ديارهم} على الجمع. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا} أي: قرآنًا مَّا: {سُيِّرَتْ بِهِ} أي: بإنزاله أو بتلاوته: {الْجِبَالُ} أي: أذهبت عن مقارّها، وزعزعت عن أماكنها: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعًا: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف، أي: لكان هذا القرآن؛ لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة، حيث لم يقدروا قدره العليِّ ولم يعدوه من قبيل الآيات، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب: لما آمنوا به كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} [الأنعام: من الآية 111] الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.
ونقل عن الفراء؛ أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} وما بينهما اعتراض، وفيه بُعْدٌ وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب، والتذكير في {كلم} لتغليب المذكر من الموتى على غيره.
وقوله تعالى: {بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودًا وعدمًا، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة، وهو إضراب عما تضمنته: {لَوْ} من معنى النفي، أي: لو أن قرآنًا فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن، ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن؛ لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعًا، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون عليه تحكم أو اقتراح. كذا في أبي السعود.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} أي: أفلم يعلم ويتبين كقوله:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقوله:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

أي: لم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي: يقسمونني، ويروى: يأسرونني من الأسر. أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم؛ لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: من أهل مكة: {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أي: بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه. والقارعة: الداهية التي تقرع وتقلق، يعني: ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب: {أَوْ تَحُلُّ} أي: تلك القارعة: {قَرِيبًا} أي: مكانًا قريبًا: {مِّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ} أي: فتح مكة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: من الآية 47]، وفي الآية وجه آخر، وهو حمل: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} على جميع الكفار، أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]، وقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: من الآية 44]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْيأسِ الذين ءامنوا أَن لَّوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا}.
يجوز أن تكون عطفًا على جملة: {كذلك أرسلناك في أمة} لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السّلام كما أشار إليه صفة: {أمة قد خلت من قبلها أمم}، فتكون جملة: {ولو أن قرآنًا} تتمة للجواب عن قولهم: {لولا أنزل عليه آية من ربه}.
ويجوز أن تكون معترضة بين جملة: {قل هو ربي} وبين جملة: {أفمن هو قائم على كل نفس} [سورة الرعد: 33] كما سيأتي هنالك.
ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفًا على جملة {هو ربي لا إله إلا هو}.
والمعنى: لو أن كتابًا من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآنٌ كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سُنن الكتب الإلهية.
وجواب: {لو} محذوف لدلالة المقام عليه.
وحذفُ جواب: {لو} كثير في القرآن كقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [سورة الأنعام: 27] وقوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم} [سورة السجدة: 12].
ويفيد ذلك معنى تعريضيًا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآنًا أمَر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغًا ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حدّ قول أبَيّ بن سُلْمَى من الحماسة:
ولو طَارَ ذو حافر قَبلها ** لطارتْ ولكنه لم يَطِر

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس: أن كفار قريش، أبا جهل وابن أبي أميّة وغيرهما جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي فقالوا: لو وسّعْت لنا جبال مكّة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحتَرثهما فإنها ضيقة، أو قرّب إلينا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج قصَيًا نكلمه.
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تَكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى} [سورة الأنعام: 111]، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارةٌ إلى تهكمهم.
وعلى هذا يكون {قطعت به الأرض} قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} [سورة الأنعام: 94].
وجملة {بل لله الأمر جميعًا} عطف على: {ولو أن قرآنًا} بحرف الإضراب، أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدَث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم، فأمر الله نبيئه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهًا على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قُرآن يتأتى به مثل ما سألوه.
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري: لأحملنّك على الأدهم يريد القيد.
فأجابه القبعثري بأن قال: مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، فصرفه إلى لون فرس.
والأمر هنا: التصرف التكويني، أي ليس القرآن ولا غيره بمكوّن شيئًا مما سألتم بل الله الذي يكوّن الأشياء.
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف بـ: {بل} من طرق القصر، فاللام في قوله: {الأمر} للاستغراق، و: {جميعًا} تأكيد له.
وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد بـ: {بل} العاطفة.
وفرع على الجملتين: {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا} استفهامًا إنكاريًا إنكارًا لانتفاء يَأسي الذين آمنوا، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا.
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} [سورة الرعد: 27].
و{ييأس} بمعنى يوقن ويعلم، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع: {أن} المصدرية، وأصله مشتق من اليَأس الّذي هو تيقّن عدم حصول المطلوب بعد البحث، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومنه قول سُحَيم بن وَثيل الرياحي:
أقول لهم بالشّعْب إذ يَيْسَرُونَنِي ** ألم تأيسوا أني ابنُ فارس زهدم

وشواهد أخرى.
وقد قيل: إن استعمال يَئِس بمعنى عَلِم لغة هَوازن أو لغة بنِي وَهْبيل فخذ من النخَع سمي باسم جَد.
وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا.
هذا إذا جعل: {أن لو يشاء الله} مفعولًا ل: {ييأس}.
ويجوز أن يكون متعلق: {ييأسْ} محذوفًا دل عليه المقام.
تقديره: مِن إيمان هَؤلاء، ويكونَ: {أن لو يشاء الله} مجرورًا بلام تعليل محذوفة.
والتقدير: لأنه لو يشاء الله لهدى الناس، فيكون تعليلًا لإنكار عَدَم يأسهم على تقدير حصوله.